الاثنين، أكتوبر 15، 2012

أنشودة السلام


أنشودة السلام
أيها السادرونَ في ظلمة الأرض
كفاكم شقاوةً و ذهولا
احملوا نادمين أشلاء موتاكم
و نوحوا على القبر طويلا
ضّمّخوها با لعطر لفّوا بقاياها
بزَهْر الكنارِ و الياسمينِ
و اهتفوا حولها بأنشودة السلامِ
ليهنا في القبر كلُّ حزينِ
اجمعوا الصبية الصغار ليشدوا
بلحون الصفاء و الابتسامِ
أنقذوا الميّتين من ضجة الحرب
ليستشعروا جمال السلامِ
فيم هذا الصراع يا أيها الأحياءُ؟
فيمَ القتالَُ؟ فيمَ الدماءُ؟
فيمَ راح الشُبّانُ في زهرة العُمر
ضحايا وفيم هذا العداءُ؟
أهْو حبُّ الثراءِ؟ يا عَجَبَ القلبِ!
و ما قيمة الثراء الفاني؟
في غدٍ رحلةٌ فهل يدفع الأموات
با لمالِ وحشةَ الأكفانِ؟
كل حيّ غداًإلى القبر مَغْدَاهُ
فهل ثَمَّ في المماتِ ثراءُ؟
افتحوا هذه القبور َو هاتوا
حدثونا أين الغِنى و الرخاءُ؟
انظروا هاهنا على الشوكِ و الرَمْلِ
ثوى الأغنياءُ و المُعْدمونا
أيُّ فَرْقٍ ترى وهل غيرُصمتِ
الموتِ فوق القبور و الراقدينا؟
عجباً ما الذي إذن ساق هذا الكون
للموت و الأذى و الدمارِ؟!
فيم تحدو الشعوب أطماعُ غَرٍّ
يتصَّبى عينيهِ وهجُ النارِ؟
نشوةُ النَّصرِ؟يا لسُخْرية الألفاظ!
يا للأوهام يا للضَّلال!
أيها الواهمون حسبكمو وهماً
وهبُّوا من الكرى والخيالِ
نحن أسرى يقودنا......
إلى ليل عالم مجهولِ
ليس منا من يستطيع فكاكاً
ليس منا غير الأسير الذليلِ
أبداًتأمر الليالي ونمشي
ليس يُجْدي تضرّعٌ أو بكاءُ
ليس يخشى الممات صولةَ جبّارٍ
وما يستثرُهُ الضعفاءُ
هكذا الموت غالبٌ أبدَ الدهْر
ونحن الصَّرْعَى الضعافُ الحيارى
وله النصْرُ والفخارُ علينا
فاندبوا ما دعوتموه انتصار!
أيها العالمُ المخرَّب قد أسفرت
الحرب عن غلاب المنايا
شهدتْ هذه القبور لها بالنصرِ

الأحد، أغسطس 12، 2012

إلى الشعر


من بَخور المعابدِ في بابل الغابرهْ

من ضجيج النواعيرِ في فَلَواتِ الجَنوبْ

من هتافاتِ قُمْريّةٍ ساهرهْ

وصدى الحاصدات يغنّين لحنَ الغروبْ

ذلكَ الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوبْ

لحياتي, لسمع السنينْ

مُثخَنًا بعبيرِ مساءٍ حزينْ

أثقلتهُ السنابِلُ بالأرَجِ النَّشْوانْ,

بصدًى شاعريّ غريبْ

من هُتافاتِ ضفدعةٍ في الدجى النعسان

يملأُ الليلَ والغدْرانْ

صوتُها المتراخي الرتيبْ

**

ذلك الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوب

لحياتي, لسَمْع المساءْ

سيؤوبُ وأسمعُ فيه غناءْ

قمريَّ العُذوبةِ فيه صَدًى من ليالي المطر

من هدوءِ غُصونِ الشجر

وهي تمتصّ سَكْرى, رحيق السَّماءْ

الرحيقَ الذي عطّرتْهُ الغيومْ

بالرؤى, بتحايا النجومْ

**

سأجوبُ الوجودْ

وسأجمَعُ ذرّاتِ صوتِكَ من كل نَبْعٍ بَرودْ

من جبال الشِّمالْ

حيث تهمسُ حتى الزنابقُ بالأُغنياتْ

حيثُ يحكي الصنوبرُ للزَّمَنِ الجوّالْ

قصصًا نابضاتْ

بالشَّذى, قصصًا عن غرامِ الظِّلالْ

بالسواقي, وعن أغنياتِ الذئابْ

لمياهِ الينابيعِ في ظُلَلِ الغاباتْ

عن وقَارِ المراعي وفلسفة الجَدْولِ المُنْسابْ

عن خَروفٍ يُحسّ اكتِئابًا عميقْ

ويُقضِّي النَّهارْ

يقضِمُ العُشْبَ والأفكارْ

مُغْرَقًا في ضَبابِ وجودٍ سحيقْ

**

وسأجمعُ ذرّاتِ صَوْتِك من ضَحِكاتِ النعيمْ

في مساءٍ قديمْ

من أماسيِّ دِجلةَ يُثْقلُ أجواءَهُ بالحنينْ

مرحُ الساهرينْ

يرشفونَ خرير المياهْ

وهي تَرْطُمُ شاطئَهُمْ, وضياءُ القَمَرْ

قَمَرِ الصيفِ يملأ جوّ المَساءِ صُوَرْ

والنسيمُ يمرّ كلمس شِفاهْ

من بلادٍ أُخَرْ

ليلةٌ شهرزاديّةُ الأجواءْ

في دجاها الحَنونْ

كلّ شيءٍ يُحسّ ويحلُمُ حتى السكونْ

ويهيم بحبِّ الضياءْ

**

وسأسمَع صوتَكَ حيثُ أكونْ

في انفعال الطبيعةِ, في لَحَظاتِ الجنونْ

حينَ تُثْقل رجعَ الرُّعودْ

ألفُ أسطورةٍ عن شَبابِ الوجودْ

عن عصورٍ تَلاَشَتْ وعن أُمَم لن تعودْ

عن حكاياتِ صبيانِ (عادْ)

لصبايا (ثمودْ)

وأقاصيصَ غنَّتْ بها شهرزادْ

ذلك الملكَ المجنونْ

في ليالي الشتاءْ

وسأسمَعُ صوتَكَ كلّ مَسَاءْ

حين يغفو الضياءْ

وتلوذُ المتاعبُ بالأحلامْ

وينامُ الطموحُ تنامُ المُنَى والغَرَامْ

وتنامُ الحياةُ, ويبقى الزَّمَانْ

ساهرًا لا يَنَامْ

مثل صوتك, ملء الدُّجَى الوَسنانْ

صوتُكَ السهرانْ

في حنيني العميق

صوتك الأبديّ الذي لا يَنَامْ

فهو يبقَى معي سهرانْ

وأُحسّ صداهُ الملوّنَ يملأ كل طريقْ

بالشَّذَى بندى الألوانْ

صوتُكَ المجهولْ

أنا أدركتُ - يا فرحتا - سرّهُ المَعْسُولْ

أنا أدركتُهُ أنا وَحْدي وصمْتُ الزَّمَانْ

الأحد، يونيو 24، 2012

مع الأشرار


قد رقبت الأشرار حينا فلم أعثر لديهم على سناك الحبيب

فهم البائسون تطحنهم أيدي الليالي بما جنوا من ذنوب

ورأيت الطغاة يحيون محزونين بين الأوهام والأشباح

ليس يشفيهم من الحزن واليأس دواء فالداء في الأرواح

فإذا أخمدوا هتافات مظلوم فما يخمدون صوت الضمير

ذلك الراقب الإلهيّ في النفس لسان الهدى وصوت الشعور

أبدا ساهر يراقب أقدار الليالي وسطوة الأيّام

أبدا يرمق الحياة من الأعماق ,مستهزئا من الأعوام

فإذا حادت القلوب عن الخير علا صوت ذلك الجبّار

فهو الناقم النبيل على الشرّ وقاضي الطغاة والأشرار

كيف ينجو الأشرار من شقوة الروح وصوت الضمير بالمرصاد

لا ملاذ من حاكمم يملك الروح بما في كّفيه من أصفاد

عجبا أين تلتقيك حياتي؟ يا ضفاف السعادة المنشوده؟

جبت هذا الوجود أبحث لكن لم تزالي الحقيقة المفقوده

جهلتك الدنيا فلا أحد يعلم ما أنت واقع أم خيال؟

كّلهم يسألون عنك ولكن لم تحدّث بسرّك الآزال

ها أنا ذي حملت قلبي على كفّي وسرت الحياة أبحث عنك

أسأل العابرين هل فيهم من قد روى قلبه المشوّق منك

الأربعاء، يونيو 13، 2012

سياط وأصداء


"كان على أرض الشارع المبللة جسد حصان,

وكانت السياط ترتفع ثم تهوي فلا تسقط إلا على جرح"
- - -

ما زلت أذكر كلّ شىء من صباحي الضائع

الراقد الدامي المجرّح فوق أرض الشارع

وصدى السياط المرهقات على الجبين الضارع

يا ثورة الإحساس في نفسي علام تمزقّي

ألمي على الجسد الممزّق بعض ضعفي الأحمق

وغدا سأدفن ما تبقّى من حناني المرهق

يا ليتني عمياء لا أدري بما تجني الشرور

صّماء لا أصغي إلى وقع السياط على الظهور

يا ليت قلبي كان صخرا لا يعذّبه الشعور

يا ليتني , ماذا تفيدك , يا حياتي , ليتني؟

أحلامك النضرات باتت في قنوط محزن

لن يسمع القدر المدّمر فاصرخي أو أذعني

يا نار عاطفتي الرقيقة , يا غريبة في البشر

وقع السياط على الظهور أشدّ من وقع القدر

والحسّ في هذا الوجود جريمة لا تغتفر

لن تقتلي الشيطان في الإنسان أو تحيي الملاك

وغدا ستطويك الليالي في دياجير الهلاك

وغدا سيأسرك التراب فلا شعور ولا حراك

ما كان أثقل عبء أحلامي وآلامي وأقسى !

فامشي بنا نحو الفناء لعلّنا ننسى وننسى


وليسدل الستر المقدّس ,حسبنا غّما ويأسا

السبت، يونيو 02، 2012

الشخص الثاني


لو جئت غدا وعبرت حدود الأمس إلى غدي الموعود

وشدا فرحا بمجيئك حتى المعبر والباب المسدود

ولقيتك أبحث فيك عن المتبقّي من أمسي المفقود

لو جئت ولم أجد الماثل في ألحاني



وأطلّ على روحي منك الشخص الثاني

الشخص الثاني, من أعماق شهور التيه المطموره

حاكته دقائق تلك الأيّام الجانية المغروره

وترّسب في عينيه تثاقلها ورؤاها المذعوره

وسأبحث فيك عن الماضي في اطمئنان

فيفاجىء لهفتي الحرّى الشخص الثاني
***

ومكان الواحد في عينيك المرهفتين أحس اثنين

ويقابلني الشخصان معا وسدى أرجو فصل الضدّين

وسأسأل عمّا خلّفه لي عامان

من وجهك, والردّ جبين الشخص الثاني
***

وسيسكن هذا الشخص الثاني الأحمق حتى في البسمات

وسيرمقني في خبث, مختبئا حتى خلف الكلمات

ولمن أشكو هذا المخلوق الشيطاني

والأول فيك محته يد الشخص الثاني؟

عندما قتلت حبي

وأبغضتك لم يبق سوى مقتي أناجيه

وأسمعه صراخ الحقد في أغنية جهمه

وأبغضت اسمك الملعون والأصداء والظلاّ

وتلك الذكريات الخشنة الممقوتة الفظّه

هوت وتأكّلت وثوت مع الآباد في لحظه

وعدت قصيدة فجرية جذلى

وقلت الأمس ما عاد سوى لفظه
 ***

وتمّ النصر لي وهويت تمثالا إلى الهوّه

وراح الرفش في كفّي يشقّ الأرض في نهم

فلامس في الثرى جسدا رهيبا بارد القدم

ورحت أجرّه للضوء مزهوّه

فمن كان؟

بقايا جثّة الندم
 ***

وكان الليل مرآة فأبصرت بها كرهي

وكنت قتلتك الساعة في ليلي وفي كأسي

وكنت أشيّع المقتول في بطء إلى الرمس

فأدركت ولون اليأس في وجهي

بأني قطّ لم أقتل سوى نفسي

فلامس في الثرى جسدا رهيبا بارد القدم

ورحت أجرّه للضوء مزهوّه

فمن كان؟

بقايا جثّة الندم
***

وكان الليل مرآة فأبصرت بها كرهي

وأمسي الميت لكني لم أعثر على كنهي

وكنت قتلتك الساعة في ليلي وفي كأسي

وكنت أشيّع المقتول في بطء إلى الرمس

فأدركت ولون اليأس في وجهي

بأني قطّ لم أقتل سوى نفسي

الخميس، مايو 24، 2012

شجرة القمر


1

على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ

وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ

وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ

وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ

هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ

إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ

ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ

ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ

وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ

وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ

وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ

ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ

وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ

يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ

ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ

وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ

وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ

على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ

وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا

أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى

2

وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ

خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ

وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ

وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ

وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ

وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ

وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ

ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ

وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما

على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما

... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ

وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ

وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ

بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ

وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ

أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ؟

وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ

وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْنيهِ, بالزّنْبقِ

3

وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ

وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر؟!"

"وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا؟"

"وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا؟"

ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"

فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"

"مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"

"وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"

"مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"

"وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"

"يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"

"ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"

"ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر؟"

"ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ؟"

ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ

فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ

وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ

ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ

وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ

ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"

وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ

إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ

وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ

وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ

وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ

ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ

وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ؟"

فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ؟"

4

وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ

ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك؟"

وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ

فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ

وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ

ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ

ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ

وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ

ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ

ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور

وأين سيهرُبُ? أين يخبّئ هذا الجبينْ؟

ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين؟

وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ

وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ؟

ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ

تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ

وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ

ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ, وأينَ المفرْ؟

وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ

بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ

5

وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ

وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ

تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ

فماذا رأوا? أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ!

فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ

وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ

جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ

وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ

ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ

وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ

وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ؟

ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى? ثمّ... أينَ القَمَرْ؟

وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ

عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ؟

أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ

وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ؟

أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ؟

وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ؟

أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها

سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها

لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ

وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي

6

وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ

يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ

يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ

يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ

ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ

ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ

وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ

يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ

وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ

فماذا رأى? يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!

هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ, حيثُ الصباحْ

تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ

هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ

جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ

رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ

وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ

وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ

وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ

وأثمارها? أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ

لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ

وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ

فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ

فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ? أيّ تُرْبهْ

سقتْها الجمالَ المفضَّضَ? أي ينابيعَ عذْبَهْ؟

وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ

جميعًا? فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ

7

ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون

حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون

وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ

وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ

وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ

وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ

يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ

وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ

وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ

يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ
***

آمل توقيع الحضور.. لإثراء صفاحتي بمرورك.