السبت، يونيو 25، 2011

غُربَاءْ.. ( نازك الملائكة )



أطفئ الشمعةَ واتركنا غريبَيْنِ هنـا

نحنُ جُزءانِ من الليلِ فما معنى السنا?

يسقطُ الضوءُ على وهمينِ في جَفنِ المساءْ

يسقطُ الضوءُ على بعضِ شظايا من رجاءْ

سُمّيتْ نحنُ وأدعوها أنا:

مللاً. نحن هنا مثلُ الضياءْ

غُربَاءْ

اللقاء الباهتُ الباردُ كاليومِ المطيـرِ

كان قتلاً لأناشيدي وقبرًا لشعـوري

دقّتِ الساعةُ في الظلمةِ تسعًا ثم عشرا

وأنا من ألمي أُصغي وأُحصي. كنت حَيرى

أسألُ الساعةَ ما جَدْوى حبوري

إن نكن نقضي الأماسي, أنتَ أَدْرى,

غُربَاءْ

مرّتِ الساعاتُ كالماضي يُغشّيها الذُّبولُ

كالغدِ المجهولِ لا أدري أفجرٌ أم أصيلُ

مرّتِ الساعاتُ والصمتُ كأجواءِ الشتاءِ

خلتُهُ يخنق أنفاسي ويطغى في دمائي

خلتهُ يَنبِسُ في نفسي يقولُ

أنتما تحت أعاصيرِ المساءِ

غُربَاءْ

أطفئ الشمعةَ فالرُّوحانِ في ليلٍ كثيفِ

يسقطُ النورُ على وجهينِ في لون الخريف

أو لا تُبْصرُ ? عينانا ذبـولٌ وبـرودٌ

أوَلا تسمعُ ? قلبانا انطفاءٌ وخُمـودُ

صمتنا أصداءُ إنذارٍ مخيفِ

ساخرٌ من أننا سوفَ نعودُ

غُربَاءْ

نحن من جاء بنا اليومَ? ومن أين بدأنـا ?

لم يكنْ يَعرفُنا الأمسُ رفيقين .. فدَعنـا

نطفرُ الذكرى كأن لم تكُ يومًا من صِبانا

بعضُ حـبٍّ نزقٍ طافَ بنا ثم سلانا

آهِ لو نحنُ رَجَعنا حيثُ كنا

قبلَ أن نَفنَى وما زلنا كلانا

ذاتَ مساء.. ( نازك الملائكة )




ثورة من ألم، من ذكريات

خلف نفسي، ملء إحساسي العنيف
وجموح في دمي، في خلجاتي
في ابتساماتي،  في قلبي اللهيف
إن أكن أبسم كالطفل السعيد
فابتساماتي وهم وخداع
إن أكن هادئة، بين الورود
ففؤادي في جنون وصراع
أيّ ماساة تراها مقلتايا!
أيّ حزن عاصر في نظراتي
جمدت فوق شقائي شفتايا
وانحنت كفّاي تحت الرعشات
لا تسلني عن خيالاتي ولحني
فالدجى الآن بغيض في عيوني
أين ألقي بصري الباكي وحزني
إن أنا حوّلت عن كفّي عيوني
أين أرنو ؟ كلّما حوّلت عيني
طالعتني صورة الوجه اللهيف
ذلك الوجه الذي الهب فنّي
بمعاني الشعر والحبّ العنيف
أيّها الغادر، لا تنظر إليّا
قد سئمت الأمل المرّ الكذوبا
حسب أقداري ما تجني عليّا
وكفى عمري حزنا ولهيبا
فيم أبقى الآن حيرى في مكاني؟
آه لو أرجع، لو أنسى شقائي
أدفن الأحزان في صدر الأغاني
وأناجي بالأسى صمت المساء
ليتنا لا نلتقي، ليت شقائي
ظل نارا، ظلّ شوقا وسهاد
يا دموعي، أيّ معنى لّلقاء
إن ذوى الحبّ وأبلاه البعاد
أيّها الأقدار، ما تبغين منّا؟
فيم قد جئت بنا هذا المكانا؟
آه لو لم نك يا أقدار جئنا
ها هنا، لو لم تقدنا قد مانا
ما الذي أبقيت في قلبي الجريح
ليس إلا الألم المرّ الشديدا
لم يعد في جسمي الذاوي وروحي
موضع يحتمل الجرح الجديدا
أكذا تنطفىء الذكرى؟ ويفنى
حبنا؟ والأمل الشعريّ يخبو
أكذا تذبل آمالي حزنا
وهي أشعار وأنغام وحبّ ؟
خدّر الحزن حياتي وطواها
لم تعد تعنيني الآن الحياة
أبدا ينطق باليأس دجاها
وتغنّي في فضاها العاصفات
لم يعد من حلمي غير ظلال
من أسى مرّ على وجهي المرير
آه لا كان بكائي وخيالي
أيّها الليل، ولا كان شعوري
والتقينا، لا فؤاد يتغنّى
لا ابتسام رسمته الشفتان
لم يعد إحساسنا شعرا وفنّا
ليتنا ضعنا ومات الخافقان
لم يعد في نفسي الولهى مكان
لأسى أو فرحة أو ذكريات
أيّ معنى للمنى؟ فات الأوان
وذوت عيناي، تحت العبرات
والتقينا في الدجى، كالغرباء
تحت جنح الصمت يطوينا الوجوم
كل شيء ضاحك تحت السماء
وأنا وحدي تذويني الهموم
هكذا يا ليل صوّرت شقائي
في نشيد من كآباتي وحزني
قصّة قد وقعت ذات مساء
وحوت روحي واحزاني ولحني

ذكرياتُ الطفولة.. ( نازك الملائكة )

لم يزل مجلسي على تلّي الرم
ليّ يصغي إلى أناشيد أمسي
لم أزل طفلة سوى أنني قد
زدت جهلا بكنه عمري ونفسي
ليتني لم أزل كما كنت قلبا
ليس فيه إلا السّنا والنقاء
كلّ يوم أبني حياتي أحلا
ما وأنسى إذا أتاتي المساء
في ظلال النخيل أبني قلاعا
وقصورا مشيدة في الرّمال
أسفا يا حياة أين رمالي
وقصوري ؟ وكيف ضاعت ظلالي؟
إيه تلّ الرمال ماذا ترى أب
قيت لي من مدينة الأحلام ؟
أين أبراجها العلّيات هل تا
هت وراء الزمان في اوهام ؟
ذهب المس لم أعد طفلة تر
قب عشّ العصفور كلّ صباح
لم أعد أبصر الحياة كما كا
نت رحيقا يذوب في أقداحي
لم أعد في الشتاء أرنو إلى الأم
طار من مهدي الجميل الصغير
لم أعد أعشق الحمامة ان غنّ
ت وألهو على ضفاف الغدير
كم زهور جمّعتها وعطور
سرقتها الحياة لم تبق شيّا
كم تعاليل صغتها بدّدتها
وتبقّى تذكارها في يديّا
كنت عرشي بالأمس يا تلّي الرم
لي والآن لم تعد غير تلّ
كان شدو الطيور رجع أناشي
دي وكان النعيم يتبع ظّلي
كان هذا الوجود مملكتي الكب
رى فيا ليتها تعود إليّا
ليت تل الرمال يسترجع الأس
رار والشعر والجمال الطريّا
لم أعد أستطيع أن أحكم الزه
ر وأرعى النجوم في كلّ ليل
هل أنا الآن غير شاعرة تد
رك سرّ الكون الجديب المملّ؟
ذهب الأمس والطفولة واعتض
ت بحسّي الرهيف عن لهو أمسي
كلّ ما في الوجود يؤلمني الآ
ن وهذي الحياة تجرح نفسي
قد تجّلت لي الحقيقة طيفا
غيهّبيا في مقلتيه جنون
وتلاشى حلم الطفولة في الما
ضي ولم يبق منه إلا الحنين
أين لون الأزهار ؟ لم أعد الآ
ن أرى في الأزهار غير البوار
كلما أبصرت عيوني أزها
را تذّكرت قاطف الأزهار
أين لحن الطيور ؟ لم يعد الآ
ن اشتياقا وحرقة في فؤادي
فالغناء اللذيذ ضاع صداه
وانطوي في تذّكر الصياد
أين همس النسيم ؟ أشواقه السك
رى انطفت لم تعد تثير خيالي
فغدا يهمس النسيم بموتي
في عميق الهوى وفوق التلال
أين مني مفاتن الليل شعر
وغموض في غيهب مسحور
لم أعد أعشق الظلام غدا أه
وي عظاما تحت الظلام الكبير
ها أنا الآن تحت ظلّ من الصف
صاف والتين مستطاب ظليل
أقطف الزهر ان رغبت وأجني الث
مر الحلو في صباحي الجميل
وغدا ترسم الظلال على قب
ري خطوطا من الجمال الكئيب
وغدا من دمي غذاؤك يا صف
صاف يا تين أيّ ثأر رهيب
ذاك دأب الحياة تسلب ما تع
طيه بخلا لا كان ما تعطيه
تتقاضى الأحياء قيمة عيش
ضّمهم من شقاه أعمق تيه
هي هذي الحياة ساقية السم
كؤوسا يطفو عليها الرحيق
أومأت للعطاش فاغترفوا من
ها ومن ذاقها فليس يفيق
هي هذي الحياة زارعة الأش
واك لا الزهر والدجى لا الضياء
هي نبع الآثام تستلهم الشرّ
وتحيا في الأرض لا في السماء

ذكرياتٌ ممحوة.. ( نازك الملائكة )




وجهك أخفاه ضباب السنين
و ضمه الماضي إلى صدره
ألقى عليه من شبابي الحزين
أحزان قلب تاه في ذعر

وصوتك الخافي خبا لحنه
وأوحشت سمعي اصداؤه
فلست ادري الآن ما لونه
ما رجعه الصافي و ايحاؤه

ولون عينيك و اســــرارها
و شعرك الداجي، و أمواجه
غابت جميعا،اين تتذكارها
في ليل قلب طال ادلاجه؟

كم، في سكون الليل، تحت الظلام
رجعت للماضي و أيامه
أبحث عن حبي بين الركام
فلم تصدني غير آلامه

لم بيق شئ غير حزني المرير
بقية عن حبي الذاهب
وذكريات من صباي الغرير
ساخرة من وجهي الشاحب

وأصبحت ذكراك وهما يلوح
يشتاقه قلبي الكئيب الغرير
يا جسدا كالقبر، ما فيه روح
سميته قلبا فيا للغرور!

وأي قلب جامد بارد
أي حياة تحت ظل الخمود
لولا صراخ الزمان الحاقد
لضقت بالعيش و عفت الوجود

لم يعد الحب اسى محرقا
يشعل أيامي بأحزانـــه
و لم يعد جفني مغروقا
يحرقه الدمع بنيرانه

لم يبق الا ثورة و احتقار
ملء حياتي المرة الحالمة
النار ذابت و تبقى الشرار
تشربه أحلامي الواهمة

و طيفك الخالي هوى نجمه
و غاب في الماضي الرهيب الأبيد
ووجهك القاسي ذوى رسمه
في مقلي فهو خيال بعيد

مضى زمان كنت فيه التي
تفتنها أنغامك الصافية
وروح أشعارك في وحدتي
وحيي الالهي و أشعاريه

مضى و أبقى لي فؤادا يرى
فيك جمادا من تراب و طين
أسكنته يوما أعالي الذرى
وأرجعته للحضيض السنين

لم يبقى منك الآن شيء جميل
غير اسمك العذب وأصدائه
ذكرى لقلب كان يوما نبيل
فبات في حمأة أهوائه

ملامح الهيكل عندي امحت
ألوجه ، و البسمة، و المقلتان
لم يبق الا اسم، وروح خوت
وذكريات قد محاها الزمان

مددت كفي إلى جوها
باحثة عن سحرها السابق
فلم أجده ثم سوى شلوها
يسخر من مدمعي الدافق

و عاد قلبي للأسى و العذاب
مستوحشا حتى من الذكريات
من يرجع الماضي اذا ما الضباب
القى دجاه فوق ليل الحياة؟

و ما محاه الزمن القادر
أي يد تكتبه من جديد؟
فيما اذن يلتفت الشاعر
إلى دجى الماضي الرهيب الأبيد؟